اجمل المقالات التي يلقي فيها الكاتب مافي عقله وقلبه من افكار ومشاعر. وهذه تعرف بالانطباعات نتعرف
على نظرته للواقع من خلاله هو. لذلك كان اجمل مقال شدني هو مقال ميسلون هادي بعنوان:" بجاما محمود سعد وقوائم العار المصرية".
إن
من شواغل العرب كلهم في هذه الأيام هو متابعة الفضائيات العربية والانتقال
من محطة إلى أخرى لملاحقة الثورات العربية المتلاحقة حتى دعا أحد فرسان
الانترنت، (ممن تصلنا إيميلاتهم على شكل فوروردات)،العرب أن يثوروا بالدور
والطابور لكي لا تتشتت جهود الجماهير العربية في المتابعة والدعم والتضامن
مع تلك الثورات.. وشبّه ظريف آخر الأمر بـ(ستار أكاديمي) للكبار حيث في كل
جمعة يوجد نومينيه لواحد من الرؤساء العرب.. وفعلاً أصبح هناك في كل بيت
حالة هستيرية من التفاعل مع الأخبار.. بل جعلت تلك الأخبار الخلافات تدب في
بعض البيوت لاختلاف حساسية التلقي بين شخص وآخر كما حدث في تلك الأيام
التي قامت فيها أحداث ميدان التحرير في مصر، حيث كان زوجي يتابع قناة
الجزيرة لحظة بلحظة من خلال القنوات الأخرى ، ( قمر النيل سات الذي تبث
عبره الجزيرة حجب البث حينئذ).. بينما تابعتُ أنا بتحفظ هذا المصدر (على
أهميته) لأني وجدت الجزيرة احتفالية بتغطيتها للحدث بل هي تخلت عن مهنيتها
في كثير من الأحيان.. مما جعلني أصعد إلى مخزن البيت وأبعثر في محتوياته عن
تلفزيون صغير وضعته في غرفة النوم وتم ربطه الى دش صغير متروك في السطح
العالي.. وهكذا تابعنا الثورة المصرية من خلال تلفزيونين يعملان في وقت
واحد.. الجزيرة من جهة والإعلام المصري (الخاص والرسمي) من جهة أخرى.
المهنية على المحك
يبدو
أن عصر التغطية المباشر للأحداث المتلاحقة الذي نعيش فيه كان سبباً في
دوخة بعض النخب الإعلامية، لأن الحدث الذي يتسارع تنقله الكاميرا بشكل فوري
فيصبح هذا الحدث مدوخاً حتى لدولة عظمى كأميركا التي انتظرت حتى مال
الميزان فمالت معه. فما بالك بالإعلاميين الذين يريدون استقاء الخبر من عدة
مصادر وسماع الآراء من عدة زوايا. سيكون هناك خيط رفيع بين اللا مهنية
والوطنية، ومن هذه الجهة فقد كانت الفضائيات العربية والمصرية الخاصة في
وضع لا تحسد عليه وهي تكافح لكي لا تفقد مهنيتها التي أصبحت على المحك،
فتململت بين نار السلطة وجنة التحرير وفي النهاية حسمت أمرها بعد موقعة
الجمل والقمع الذي أسقط مئات الشهداء. ومن الجهة نفسها حسمت تلك الموقعة،
يوم الأربعاء الدامي، المواقف المتململة لبعض الفنانين والإعلاميين ولكن
بعد فوات الأوان.. بعضهم صمت تماماً إثر هذه الواقعة بعد أن كان قد ساند
مبارك في البداية بل أساء التعبير بحق المتظاهرين.. وصمت هذا البعض كان
أفضل من التبريرات التي لا يمكن استساغتها.. كما كان أفضل من الانبطاح
والتباري إلى الانقلاب على آرائهم المعروفة بحق نظام سابق.. ومنهم يسرا
وعادل إمام وآخرون سيلفهم الصمت طويلاً وسيكون هذا أفضل لهم من التلون
السريع لركوب الموجة مع الذين غيروا آراءهم.. بل إن الصمت امتد ليشمل
إعلانات كانوا هم نجومها فتوقف بثها بعد الثورة، وهذه سخرية أخرى من سخريات
القدر الذي يداول الأيام بين الناس فيصبح من المضحك المبكي أن ينزل النصر
كالصاعقة فوق رؤوس بعض المعلنين ممن دفعوا ملايين الجنيهات لبعض هؤلاء
الفنانين بسبب جماهيريتهم العريضة ولكن بساعة واحدة انقلبت الموازين
والآراء وانسحب البساط من تحت أقدامهم، ولو كانت الهزيمة قد لحقت بثورة 25
يناير لكان لهم شأن آخر.. وهكذا هي الهزيمة لا أب لها.
القوائم السوداء
توالت
الإعتذارات بعد ذلك من معظم الفنانين خوفاً من بدعة القوائم السوداء التي
روجت لها بعض وسائل الأعلام المصرية ونسبتها إلى شباب التحرير الثائر،
فوضعوا أسماء بعض الفنانين وصورهم على قوائم سوداء تتداولها مواقع الانترنت
والصحف العربية.. وليس هذا فحسب وإنما شملت هوجة التخوين كل من عمل في
فضائيات نظام مبارك أو كان موظفاً في صحافة الموالاة، فراح بعض الإعلاميين
يستضيفون زملاءهم من رموز الإعلام السابق وكأنهم يحاكمونهم بدلاً من أن
يحاوروهم ويستمعوا إلى تبريراتهم ووجهات نظرهم.. وكان الانقلاب مئة وثمانين
درجة واضحاً على القنوات المصرية الرسمية منذ أن لاحت بوادر نجاح
الإنتفاضة المصرية، الأمر نفسه حدث مع الانتقال السريع لما يسمى بالصحف
القومية في مصر من صف الموالاة إلى صف المعارضة خوفاً من التخوين، بحيث
اشتكى أصحاب الصحف المعارضة (سابقاً) ساخرين من كساد بضاعتهم إذا كان
الخطاب الإعلامي سيتوحد بهذا الشكل المتطابق..
وتعلقاً بالإعلام
المصري الرسمي، الذي تلقى هجوماً غير مسبوق من أهل المهنة من مساندي ثورة
التحرير، يبدو من التعسف أن يتوقع منه أحد موقفاً مخالفاً لما نراه دائماً
من إعلام رسمي عربي يظل منحازاً للحاكم وحزبه بالرغم من تبعيته للشعب..
ولهذا فإن العتب على الفضائيات الرسمية يأتي دائماً نسبياً ومراعياً للظروف
التي تحيط به من سيطرة الحزب الحاكم وما إلى ذلك من فساد هو جزء من
الأسباب التي قامت الثورة ضده.. ولهذا أجد نفسي مستغربة أن يزايد على خيانة
الإعلام الرسمي بعض ممن عملوا فيه تحديداً فينصبون المشانق لزملاء لهم
كانوا جزءً من نظام مبارك وسيكون صمتهم أفضل من انقلابهم عليه بين ليلة
وضحاها.. معنى ذلك أنهم يطالبوهم علناً بالرياء والنفاق وفعلاً سرعان ما
استجابوا لهذا المطلب فأصبحوا يدينون ممارسات النظام السابق تحت مسمى آخر
هو التكيف مع الوضع الجديد.
وباسترجاع تجارب مماثلة للإعلام الرسمي
لدول عربية من ذوات الحزب الواحد وجدت أن ديناصور الإعلام المصري كان أقل
شراً من غيره، فكان يعزو أعمال التخريب إلى الغوغاء من المندسين وكان
التعرض للشباب يتم من خلال المداخلات الهاتفية للمواطنين أو النجوم الذين
يدينون تلك التظاهرات أو يشوهونها مع التقليل المبالغ فيه من شأن الحدث..
طبعاً في ذلك هو كان يمثل وجهة نظر مؤيدة لمبارك ويساندها بقوة.. ولكن ماذا
كنا نتوقع من تغطية رسمية عربية لإحتجاجات لم يتوقع لها أحد أن تتحول
فوراً إلى ثورة؟..
أكل عيش
لم يكن اولئك الفنانون طبعاً
مجبرين على تلك المداخلات التي سيتنصلون منها فيما بعد ، ولكنهم تورطوا
بالانحياز وفي ظروف صعبة إلى صف السلطة بينما نزل المنحازون لصف الشعب إلى
ميدان التحرير. أما الإعلام الرسمي في بلد غير ديموقراطي فكان يبدو من
الصعب بل من المستحيل أن يُطالب بالحياد أو الموضوعية أو المهنية.. هنا كان
على من يخالفه بالرأي من الإعلاميين العاملين فيه أن يحتج بالصمت كما فعل
محمود سعد ويذهب الى بيته ويجلس على الأريكة، كما قال، ليتفرج على الأحداث
بالبيجاما.. عاد بعد انتصار الثورة ليبدو من الفرحين بابتعاده ووقوفه (على
التل) وهو يحاكم مدير قسم الاخبار في القناة نفسها.. هنا محمود سعد يريد أن
يفخر بإهاب الوطنية لأنه يمتلك رفاهية الاستقالة والتفرج بالبجاما على
الأحداث، وهي رفاهية مستمدة على ما يبدو من راتبه الفلكي الذي صرح به أنس
الفقي في مداخلته الشهيرة.. أما المناوي مدير قسم الأخبار والموظف في
التلفزيون المصري و(الحكومة المصرية) فجعله محمود سعد يبدو لنا واقفاً في
قفص الإتهام لأنه دافع عن النظام.. وفي المقابل ظل المناوي يقول إنه فعل
ذلك من موقع الرجولة وتحمل المسؤولية وطبعاً دون أن يدين يوم الأربعاء
الدامي وموقعة الجمل وسقوط عدد كبير من الشهداء.. وعندما دخل وزير الإعلام
السابق انس الفقي على الخط، وصرح براتب محمود سعد المليوني، دافع سعد عن
نفسه قائلاً إنه يأخذ ذلك الراتب من الإعلانات، أي تلك الإعلانات التي
يجلبها برنامجه للتلفزيون المصري… وهنا حدث خلط في الأوراق.. كأن الجزء
أصبح عنده يمحو الكل.. أو أنه غير مهم كالكل ،أما الجزء فهو في كونه يتقاضى
راتبه من الإعلانات وأما الكل فهو في كونه جزءً من منظومة التلفزيون
المصري التي تستخدم الأصوات المعارضة لتجميل نظامها.. المفارقة أن
التلفزيون نفسه عاد لتجميل نفسه بمحمود سعد تالياً عندما عاد الى برنامجه
الشهير (مصر النهاردة) وهو يفخر بنفسه كصاحب الموقف الوطني المتبرئ من
تغطية الماسبيرو.. صحيح أن ذلك الانسحاب كان موفقاً وهو كان واحداً من أفضل
الإعلاميين المشاكسين في تلفزيون مبارك، لكن التعفف مطلوب بالغنى مثل
الفقر، وكان من التهافت أن يمشي في جنازة القناة التي يعمل فيها خصوصاً
عندما سأل محمود سعد السيد المناوي مدير الأخبار: هل نزلت الى ميدان
التحرير؟ فقال المناوي :كلا. فاجاب محمود سعد بفخر: طيب أنا نزلت.
خلاصة
القول أن الانزواء لبعض الوقت كان ضرورياً لبعض الوجوه التي أرادت أن تمشي
مرحاً في ميدان التحرير وخلف مواكب الشهداء وكان ضبط النفس غائباً إلا في
نماذج محدودة كمعتز الدمرداش. أما نشر قوائم العار بأسماء كتائب الفنانين
المعادين للثورة فهذا ليس من المنطق في شيء وهم الذين وجدوا أنفسهم بين
ليلة وضحاها بين نظام سابق وثورة عليه، وكان التغيير سريعاً إلى درجة أربكت
الكثيرين خصوصاً اولئك الذين يعتبرون الفن (أكل عيش) كما يفعل البوابون..
هؤلاء أنفسهم سارعوا بالإعلان عن براءتهم مما قالوه وبسرعة الصاروخ أيضاً
تبرؤوا من مفاسد النظام السابق لأن الفن لا يزال بالنسبة لهم (أكل عيش)،
وبدا المشهد لا يحتمل سوى جانبين: أما الانبطاح أو وضع أسمائهم في القوائم
السوداء، وكلا الأمرين يستحقان وقفة تأمل جادة، لأن الصمت أفضل من التسرع
في الكلام خصوصاً بالنسبة لأولئك الذين كانوا ضمن آلة إعلام السلطة الرسمية
أو عملوا تحت مظلته مثل مذيعي ماسبيرو..